توسعت ليبيا في بناء علاقات دبلوماسية مع دول قد لا يعلم الليبيون أنها تحظى باهتمام خارجية بلدهم, لتصرف الملايين لبعثات دبلوماسية تم إيفادها دون أي هدف, ما تسبب في إرهاق لميزانية الدولة و إساءة استخدام المال العام.
كيف تكون البعثات الدبلوماسية أداة لاختلاس أموال الدولة؟
نشر بتاريخ: 2022/01/20
/
تمارس كل دولة حقها الطبيعي في الانتشار الدبلوماسي في الخارج بما يتماشى مع طموحاتها الدولية لتوطيد علاقاتها مع دول العالم, والتي تمارسها بإرادتها الحرة لخدمة مصالحها الوطنية ومصلحة رعاياها في الدول الموفدة إليهم.
لكن ليبيا كسرت هذه القاعدة و حافظت بل توسعت في بناء علاقات دبلوماسية مع دول قد لا يعلم الليبيون أنها تحظى باهتمام خارجية بلدهم, لتصرف الملايين لبعثات دبلوماسية تم إيفادها دون أي هدف, ما تسبب في إرهاق لميزانية الدولة و إساءة استخدام المال العام.
تضخم دبلوماسي!
وفق ديوان المحاسبة الليبي لسنة 2020 فإن ليبيا توفد 140 بعثة دبلوماسية ناشطة مقابل حوالي 8 مليون مواطن تقريباً, مقسمة إلى ( 114 سفارة, 14 قنصلية, ومندوبية واحدة, 9 سفارات مقفلة مع إعادة افتتاح السفارة الليبية في دمشق مؤخراً).
دقق نفس التقرير في وجهات البعثات الدبلوماسية الليبية وخلص إلى ملاحظة مهمة تقر بوجود عدد من السفارات يتم صرف مبالغ مالية لها دون أي جدوى من فتح هذه السفارات مما يشكل عبأً مالياً على الدولة الليبية
كما ذكر التقرير أنه لا جدوى ولا مبرر لوجود بعثات دبلوماسية في خمس دول وهي ساوتومي وبرنسيب, سيشل, رواندا, ليسوتو وغينيا بيساو, حيث بلغ فقط مجموع المصروفات لهذه البعثات الخمس لمدة ثلاث سنوات بداية من سنة 2018 ما يتجاوز 24 مليون دينار ليبي حوالي 18 مليون$.
المثير للاستغراب, بأن هذه الدول لا توجد بها جاليات ليبية أو حتى تمثيل دبلوماسي متبادل, خلافاً لاتفاقية فيينا المنظمة للعلاقات الدبلوماسية التي نصت المادة الثانية منها على أن "تنشأ العلاقات الدبلوماسية بين الدول و توفد البعثات الدبلوماسية الدائمة بناء على الاتفاق المتبادل بينهما".
لم يقدم تقرير ديوان المحاسبة لسنة 2020 إلا عينة صغيرة تضم مجموعة من السفارات المتهمة بامتصاص أموال الليبيين سُدى, فالواقع يثبت أن عشرات البعثات الليبية في الخارج وجب إعادة النظر فيها و تنظيمها من جديد بما يتماشى مع الحاجة الفعلية للدبلوماسية الليبية.
تبنت وزارة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية فكرة تقليص عدد البعثات الدبلوماسية و حاول الفريق الجديد تحريك ملف الدبلوماسية عبر تقديم مقترح للمجلس الرئاسي مُدعم بمذكرة تتضمن 22 سفارة مرشحة للإقفال أو إحالة مهامها لسفارة مجاورة.
رفض السيد محمد خليل عيسى الوكيل السياسي لوزارة الخارجية للشؤون القنصلية و أحد قيادات الكتائب المسلحة في ليبيا, اطلاعنا على هويات السفارات المعنية لكننا علمنا بمعية الوكيل أن بعض السفارات التي ذكرتها العينة اندرجت فعلا في قائمة الـ 22 سفارة.
تباعاً بيّن السيد محمد خليل عيسى أن الدراسة التي تم إرسالها للرئاسي للبث في أمرها, اعتمدت على أربعة معايير أساسية حسمت مدى نجاعة البعثات الدبلوماسية و هي الارتباط السياسي و مدى توفر الاستثمارات الليبية في هذه الدولة و وجود نشاط اقتصادي و اجتماعي و أخيراً مدى تأثير هذه الدول على مستوى العالم, و تم الأخذ في الاعتبار أيضا ملكية العقار الذي يحتضن البعثة.
إرث إفريقي
أغلب الدول التي ذكرها التقرير موجودة في القارة الإفريقية والتي تستحوذ على الجزء الاكبر من اهتمام الخارجية الليبية بأكثر من 60 بعثة هذا الأمر أرجعه وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية لميل النظام السابق إلى بعث سفارات في الدول الافريقية لأغراض اقتصادية و سياسية واستخباراتية و استمر هذا الإرث إلى الآن لصعوبة بناء إستراتيجية جديدة للخارجية دون استتاب الأمن بشكل كافي.
ترك نظام معمر القدافي هذا الارث الثقيل حتى بعد انهيار نظامه, إذ عرف النظام السابق بسخائه باتجاه دول الجوار في افريقيا بضخ مئات الملايين من الدولارات في عديد الدول الافريقية و حتى غير المستقرة منها لاستثمارها في مجالات مختلفة بهدف التمهيد لتأسيس "الولايات المتحدة الافريقية" و بسط السيطرة عليها, و أضحى بذلك معمر القذافي ملك افريقيا في الوقت الذي أدار العالم ظهره له.
بنى النظام السابق ترسانة من الهياكل الاقتصادية على شكل شركات و محفظات للإشراف على الاستثمارات الليبية في أفريقيا منها المحفظة الليبية الاستثمارية الليبية الافريقية و الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية و غيرها التي تدير أصول واستثمارات بقيمة مليارات الدولارات. على سبيل المثال تدير الشركة الليبية للاستثمارات الافريقية وحدها ما يقارب 23 شركة في 18 دولة افريقية في مجالات متنوعة. لكن حاليا جميع الأصول الدولية لليبيا مجمدة بموجب عقوبات مسلطة على الدولة الليبية التي خسرت ملكيات عديد الشركات لصالح الدول المستقبلة.
روج مسؤولو الخارجية و الرئاسي لفكرة ارتباط وجود هذه البعثات في افريقيا بوجود استثمارات كبرى ومهمة و لكن بالرجوع لوزارة الاقتصاد أكد السيد عبد الله الجدي- مسؤول ملف الكوميسا ونقطة الاتصال بوزارة الاقتصاد أن أغلب هذه الدول الخمسة لا تحتوي على أي استثمارات ولا تربطها أي علاقات تجارية أو اقتصادية مع ليبيا.
(بحسب موقع الشركة الليبية للاستثمارات الافريقية من إجمالي عينة الخمسة دول المذكورة, لا يوجد إلا استثمار وحيد لا يزال قيد إعادة التأهيل, حيث تمتلك الشركة فندق فئة 5 نجوم، مقام علي مساحة أرض 4.5 هكتار بوسط العاصمة بيساو).
هذا أيضاً ما أكده السيد العارف حسن عضو في مجلس رجال الأعمال الليبي حيث شدد على عدم انقطاع التواصل بين المجلس و الخارجية و رغم ذلك لم يصلهم أي إشعار يفيد وجود استثمار أو تعامل اقتصادي مع هذه الدول, مضيفا أن مادة الكاكاو على سبيل المثال إحدى صادرات دولة ساوتومي, تأخذها ليبيا من تركيا و الصين و مصر أو آسيا عموماً.
تقدم الدول الشفافة عادة على إنشاء علاقات دبلوماسية استنادا الى معايير علمية تؤمن نجاعة هذه العلاقات حيث تقرر الدولة بإنشاء علاقات دبلوماسية مع مثيلاتها بعد دراسة عدة معايير محددة, ذكرها السيد على عون سكرتير أول بوزارة الخارجية و هي ضرورة وجود مصالح مشتركة منافع متبادلة و الأهمية السياسية للدولة بالاضافة للموقع الجغرافي والتاريخ الواحد و الامتداد الاجتماعي ووحدة الدين واللغة, إلى جانب عامل الاقتصادي والتبادل التجاري. تغيب هذه المعايير وغيرها في الدول الخمسة موضع العينة رغم ذلك حافظت على وجودها المادي بما يتنافى مع هذه المعايير.
شمّاعة عدم الاستقرار!
بدأ العمل على هذا المقال بطرح سؤال مركزي و هو لماذا تحافظ ليبيا على علاقات دبلوماسية مع هذه الدول و تنفق أموالاً طائلة عليها دون جدوى؟
اختلفت تفسيرات محاورينا حول وضع البعثات الدبلوماسية الليبية, ولكن كل الإجابات التي تحصلنا عليها كانت تصب في نفس الاتجاه الذي يُبعد الخارجية الليبية والمجلس الرئاسي عن المسؤولية وذلك بتبرير أدائهما الضعيف بالظروف الأمنية و السياسية التي تمر بها البلاد منذ الاطاحة بنظام معمر القذافي قبل عشر سنوات.
حيث بررت السيدة نجوى وهيبة المتحدثة الرسمية باسم المجلس الرئاسي المتحكم الأساسي بالسياسة الخارجية, استمرار وجود هذه السفارات الى عدم قدرة الهياكل الحالية غير المنتخبة البت في مصير بعض السفارات رغم حاجتها لإعادة النظر وفق تعبيرها.
اما السيد علي عون رأى أن استمرار وجود هذه البعثات مرتبط باستمرار عدم استقرار الوضع الأمني و السياسي الذي يحول دون تحقيق تغييرات ملموسة, في انتظار حكومة منتخبة تحمل تصور خاص بالسياسة الخارجية.
كل هذه التبريرات تحيلنا الى تصور يفضي الى استحالة قدرة الإدارة الحالية على فتح ملف السفارات, والذي أقر ديوان المحاسبة حسب تقاريره السنوية أنه أحد أكبر ملفات الفساد الذي تعاني منه ليبيا منذ سنوات.
السيد توفيق الشهيبي رئيس الهيئة العليا لتحالف القوى الوطنية وبرلماني سابق, أكد أن الحكومة الحالية و المجلس الرئاسي كان بإمكانهم إحداث التغييرات التي تتطلبها المرحلة لكنهم فشلوا في ذلك لأن الإصلاح كان يتطلب منهم التنصل من التعهدات التي قطعوها لصالح شركائهم من خارج الحكم.
عمل الحزب الذي ينشط فيه السيد الشهيبي على دراسة تقييم ملف الخارجية ليخلص كون 70% من الموظفين الدبلوماسيين وجب ارجاعهم لليبيا لأنهم يشكلون عبءً مادياً ثقيلاً دون فائدة.
ضد التشريع!
في نفس السياق نبه تقرير ديوان المحاسبة الليبي لسنة 2020 الى تجاوزات خطيرة عبر إيفاد موظفين لوظائف غير موجودة بالملاك الوظيفي مما ينجر عنه إهدار للمال العام دون تحقيق منفعة. مثلا في سنة 2020 تم إيفاد 171 موظف دون وجه حق, كما أن التجاوزات لم تقف عند هذا الحد بل اتضحت ظاهرة تعديل السن عن طريق الأحكام القضائية أو تعديل شهادة الوضع العائلي و الشهادات الإدارية دون منطوق حكم قضائي مما أتاح للعديد ممارسة وظائف دبلوماسية دون السن القانوني للعمل.
و بالرجوع لتقرير ديوان المحاسبة الليبي لسنة 2018 نجد ملاحظات تفيد تجاوز التشريعات عبر استمرار صرف مرتبات بعض الموفدين للعمل بالخارج بالرغم من انتهاء فترة عملهم و بلوغهم السن القانونية للتقاعد, و انتشار ظاهرة إبرام عقود عمل و محاضر الاتفاق للقيام بمهام الحراسات و أمن السفارات مع أشخاص غير مختصين و لا تربطهم أي علاقة وظيفية بالدولة الليبية.
هذا الإفراط في الصرف و تعيين الموظفين بالخارج من أجل إرضاء أطراف محسوبة على الحكومات السابقة وحتى الحالية التي توسعت في إيفاد الموظفين, كان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى رفض بعض الدول منح التأشيرات لدبلوماسيين ليبيين ما يُعتبر إهانة في حق الدبلوماسية الليبية.
يقول السيد توفيق الشهيبي أن الحكومة الحالية بمعية المجلس الرئاسي تورط الدولة في عقود وظيفية بالخارج قد تعجز الدولة عن الإيفاء بها مستقبلا, مضيفاً أن المطلعين على الشأن السياسي الليبي عن قرب يمكنهم بسهولة تصنيف رؤساء البعثات وفق انتماءاتهم للأشخاص من داخل المجلس الرئاسي.
بسؤالها حول مدى صحة الأخبار التي تدور حول عدم أحقية عديد السفراء بمناصبهم و سيطرة المحاصصة على الخارجية الليبية, رفضت السيدة نجوى وهيبة التعليق عن هذا الأمر, مؤكدة أنها لأول مرة تسمع بمثل هذه الإدعاءات و أن غالبية من يتم تعيينهم هم من صلب السلك الدبلوماسي الذي يخضع بدوره للتراتبية الوظيفية.
إنفاق سخي وأداء ضعيف!
"في دول تتفاخر بعدد البعثات الدبلوماسية اللي عندها بالخارج"
هذا تعليق آخر صدر عن المتحدثة الرسمية باسم المجلس الرئاسي عند سؤالها إن كان هناك تفكير أو حديث بخصوص تقليص البعثات الدبلوماسية.
لكن هل تقابل دائما الجودة بالعدد ؟ كندا على سبيل المثال تمتلك 144 بعثة دبلوماسية تقريبا حول العالم, بالنظر لإشعاع سياستها الخارجية و قيام الدولة على الانفتاح, اقتصرت على هذا العدد بجواز سفر يعد من الأقوى في العالم.
ذكر تقرير ديوان المحاسبة الليبي لسنة 2014 تدني الخدمات المقدمة للمواطنين في السفارات رغم ارتفاع عدد الموظفين و العاملين المحليين لدرجة اكتضاض المكاتب في بعض السفارات. هذا الأمر يمكن ملاحظته بسهولة في مواقع التواصل الاجتماعي عبر مراقبة سخط العديد من طالبي الخدمة من السفارات على بطء حصولهم على خدمات تعد بسيطة.
وفقاً لتقرير ديوان المحاسبة لعام 2018، فإن أكثر من نصف مليار دولار تنفق سنوياً على 141 بعثة دبلوماسية، بعضها لم يحقق أي مصالح للدولة. و بدراسة جداول صرف الميزانيات للبعثات الدبلوماسية نلاحظ تركيز الصرف في الشهر الأخير من السنة في بعض البنود مما يعطي مؤشر على الصرف لاستنفاذ المخصصات. إلى جانب العشوائية المتبعة في تقدير الميزانيات وهو ما نتج عنه ظهور وفرة بنسبة كبيرة للمصروفات أمام تقديره.
وأمام ضعف المساءلة و المحاسبة في المؤسسات الليبية, تُصرف مبالغ ضخمة تُقدر بالملايين دون تحقيق حاجة المواطن الليبي من خدمات جيدة داخل هذه السفارات والتي أضحت أداة لاختلاس أموال الدولة.
شارك
Share on facebook
Share on google
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp

Graphics

Illustrations

Graphics
