تقاطعية نظافة المياه مع جودة الحياة تمثل أولوية قصوى لدى الحكومات الشفافة والنزيهة في العالم, في ليبيا ترتبط شفافية المياه بألوان أخرى يملأها الصدأ والعفن والملوحة. ففي مدينة غات- أقصى الجنوب الغربي للبلاد يضطر أهالي المدينة لاستهلاك موارد مائية متدنية الجودة و شديدة التلوث وغير صالحة للشرب, والتي بدورها عرضتهم لمخاطر صحية ومشاكل غذائية كبرى.
تقاطعية نظافة المياه مع جودة الحياة تمثل أولوية قصوى لدى الحكومات الشفافة والنزيهة في العالم, في ليبيا ترتبط شفافية المياه بألوان أخرى يملأها الصدأ والعفن والملوحة. ففي مدينة غات- أقصى الجنوب الغربي للبلاد يضطر أهالي المدينة لاستهلاك موارد مائية متدنية الجودة و شديدة التلوث وغير صالحة للشرب, والتي بدورها عرضتهم لمخاطر صحية ومشاكل غذائية كبرى. هنا في هذه المساحة نستعرض إخلالات صارخة من الجهات المسؤولة عن حق وصول الماء النظيف لأهالي البلدة وكذلك تجاربهم في التعاطي مع هذه المشكلة.
تخوض (عائشة) من بلدة العوينات 120 كلم شمال غات, تجربة يومية غير مريحة لشرب لترات المياه المطلوبة لتأدية وظائفها الجسدية والحيوية, فبينما تضطر هي وعائلتها المكونة من إحدى عشرة شخصاً لاستهلاك مياه ذات جودة سيئة تصف لنا رائحة ولون المياه المستهلكة في الشرب, الغسيل و التنظيف المنزلي.
" المية ريحتها زي إبر الدم, شهبة و لونها أسود قاتم"
تميل عائلة عائشة للتقشف في إستهلاك المياه النظيفة, فهي رفاهية صعبة المنال وخدمة غير ممكنة, فأحياناً يقوم أهالي البلدة بتخزين المياه النتنة لمدة يومين أو ثلاثة لغرض ترشيحها أو تقليص أكبر كم من القاذورات فيها لغرض استخدامها في الطهي أو تنظيف المنازل, فتتم عملية التنظيف بالماء المتسخ أولاً ثم يليها التنظيف بمطهر قوي التركيز ليترك رائحة أكثر قبولاً فيما بعد.
تخوض النساء تجربة عسيرة بشكل مضاعف في الوصول إلى مياه نظيفة سواء للإستحمام أو التطهر. على شاكلة الديستوبيا المحكية في الأفلام, تستحم النساء بمياه بنية اللون مختلطة بمعادن ومواد لا يفترض وجودها في الماء القابل للشرب أو الاستحمام, حيث يخالج خيالهن فساد الحكومات ومركزية الخدمات وتدني مستوى المعيشة في بلد النفط والموارد الوفيرة. فهنا تعاني عائشة و النسوة المحيطات بها من التهابات وحكة في مناطق المهبل والفرج والتي تعود لاستخدام مياه وصفتها بالمقززة و الشهباء, فعلى سبيل المثال تمر عائشة أثناء الدورة الشهرية بمعاناة نفسية و جسدية وصحية تضطر فيها لدفع أموال مقابل الحصول على خزان متنقل للمياه لغرض استخدامه ولو بشكل مؤقت.
"نشقى بفترة حيضنا ثم نشقى بآلام الحساسية"
على مقربة من الحدود الليبية الجزائرية, يختلف الحال في محلة ايسين و التي توشك فيها مصادر المياه على النضوب حيث تصل إلى البيوت عن طريق أنابيب حديدية غير مفلترة أو معقمة و بشكل غير منتظم. عضو الهلال الأحمر في المنطقة "أبوبكر الخميس" شارك معنا تخوفه من سلامة هذه المياه و يقول بأن هذه المياه ستتسبب في كارثة صحية وإنسانية على مستوى المنطقة والجنوب بالكامل. بينما تختلف التحديات لدى سكان منطقة أفود بسبب نفاذ مصادر المياه الثابتة بعد جفاف البئر الذي حفروه بسواعدهم و فشل كل محاولات احيائه من جديد في المقابل يعول المواطنون هناك على بئر يقع على مجرى سيول قد ينقطع مع بداية الشتاء و بئر زراعي آخر يوجد بأحد المزارع الخاصة.
وفق مصلحة الإحصاء والتعداد في ليبيا 45% من السكان في المناطق الحضرية أو الريفية لديهم شبكة صرف صحي, بينما 55% منهم يلجأون لحلول فردية لسد خلل مؤسساتي منوط بالهيئة العامة للمياه عن طريق بناء مستودعات الصرف (الآبار السوداء) في المواقع السكنية.
نشاز أكثر من نصف السكان عن الشبكة الرسمية سببه توقف دور الدولة في التخطيط العمراني و الاشراف و التسيير وفق أحمد الأمين مهندس طاقة متجددة و أستاذ في جامعة سبها, رغم تقدم العمران وازدياد عدد السكان في غات لم تشهد شبكة الصرف الصحي التي تخدم بعض البيوت القديمة أي عمليات استحداث أو توسعة و هذا ما صنع فوضى المياه العادمة.
مؤسسة Fanack للمياه ذكرت عبر موقعها ملاحظتين في هذا السياق, الأولى هي ضعف القدرات على تنفيذ الخطط الحالية في المناطق الريفية بليبيا من حيث الموارد البشرية والتمويل والأدوار المؤسساتية المحدودة وثانيا غياب معايير واضحة لاستهداف أداء قطاع إمدادات المياه والصرف الصحي في الريف.
في عام 2019 باغتت السيول سكان مدينة غات ما تسبب في اختلاط مياه الآبار بمياه الصرف الصحي, فغياب المسالك السليمة لمياه الصرف الصحي في الأحياء المستحدثة التي يقطنها المهاجرون فاقم من حجم الكارثة البيئية بالمدينة, حيث يتم تركيب مضخات خارج البيوت للتخلص من المياه السوداء (مياه الصرف الصحي) نحو صهاريج بلاستيكية مفتوحة يُهمل إفراغها و العناية بها حتى تفيض و تسيل نحو مستنقعات سطحية مكشوفة.
الإصحاح البيئي عاجز!
يُعرف مكتب الإصحاح البيئي كجهة خدمية تقلل من مسببات التلوث ومشاكل المياه والحد من نواقل الأمراض وتحسين جودة الخدمات الصحية والمائية, في حين أن مكتب الإصحاح البيئي في بلدية غات عاجز تماماً عن تلافي المشكلة أو إيصال صوت المتضررين إلى مركز إمداد الخدمة في الشمال.
تقول "جميلة فاضل حنيني" موظفة في مكتب الإصحاح البيئي بأن المكتب على دراية بالمشاكل الحاصلة و أنه استقال أخلاقياً عن تأدية مهامه منذ فترة, فالمكتب ليس له نشاط فعلي على الأرض بل انحصرت مردودية الموظفين في توقيع الأوراق الروتينية و تسجيل الدخول كل يوم لـ18 موظف تقريبا.
"نحن كموظفين قد نقوم بتقديم تقارير عن الوضع ولكن المسؤولون و صُناع القرار لا يهتمون بها"
رغم الوضع المتردى لجودة المياه, لم ينكر مدير الشركة العامة للمياه في المدينة بدر عبد الله و الذي أقر بأن الأنابيب الواصلة للبيوت فاقت عمرها الافتراضي بعشر سنوات ما يبرر وجود الصدأ بها و وصول مياه ملونة إلى مستهلكيها. حيث يقول أن مسألة إستبدال هذه الأنابيب آمر غير مطروح أصلاً على المستوى القريب أو البعيد.
أيضاً, ترتبط المشاكل ببعضها بشكل رهيب في ليبيا, فمشكلة نقص البنزين أثرت على توليد المياه من محطتي تهالا و مركز غات, فهما الآن خارج الخدمة ويصعب توليدهما من جديد. ناهيك عن الوصول غير الآمن للمياه للمدارس والمؤسسات التعليمية للأطفال وليس فقط البيوت, فقد أصدرت منظمة اليونسيف سنة 2017 بالشراكة مع المركز الوطني لمكافحة الأمراض ووزارة التعليم تقريراً عن جودة المياه في المدارس الليبية, حيث تبين بأن 67 % من المدارس الليبية لديها مصدر محدود من مياه الشرب كما أن 95.8 % لديها خدمات صرف صحي محدودة.وأكدت البحوث المخبرية من وجود بكتيريا في عينات المياه في 54 % من المدارس المستهدفة و 28 % من العينات تحتوي على نسب عالية من الحديد.
الطبيب معمر أبو زيد, طبيب صحة عامة عمل في غات لمدة ثلاث سنوات كان شاهداً على معاناة السكان من مشاكل صحية كبرى على إثر استهلاكهم لمياه عكرة وملوثة من بينها الفشل الكلوي, إلتهاب الكبد, الحساسية الجلدية, الإلتهابات التناسلية و الإسهال, ناهيك عن العسر الهضمي و مشاكل في التغذية السليمة للأطفال و ضعاف البنية الجسمانية.
هنا في العوينات يقوم العديد من مرضى الفشل الكلوي برحلات أسبوعية لإجراء جلسات الغسيل الكلوي و التي تمتد لمسافة 260 كيلو متراً وصولاً لمركز مدينة غات عبر طرقات وعرة و غير آمنة والتي أرهقت المرضى مادياً و معنوياً. فيروي لنا "أبو صلاح الخير" من بلدة العوينات بأن أزمة الوقود تسببت في تدهور الوضع الصحي للمرضى وكذلك أعاقت حركته للوصول إلى مواطن العلاج و مركز الخدمات في غات.
إجهاد مائي حاد
وفق معهد الموارد الدولي WRI ليبيا تعاني من إجهاد مائي حاد حيث تحتل المرتبة 15 من أصل 33 دولة الأكثر تضرراً في الثروات المائية, ولكن بغض النظر عن الحاضر المتأزم والمستقبل العطش الذي ينتظر الليبيين, فإنه من المحتمل ازدياد الطلب على المياه إلى 56% بحلول سنة 2025 والذي يترك ليبيا في مرحلة استنزاف قصوى لكل المورد المائي الموجود.
هذا الطرح يعززه فشل الحكومة و تداخل المهام الإدارية للكيانات المسؤولة و التي ترمي بالمسؤولية على الآخرى في ظل حضور المشكلة و غياب العدالة و عدم وعي السكان بحقوقهم الأساسية.
رغم عدم وجود إحصائيات تُبين تطور الوضع الصحي للسكان في آخر عشريتين إلا أن إجماع الشهادات أعلاه بشكل كلي أن المياه هي السبب الرئيسي في مشاكلهم الصحية جعل فريق البيرو يبحث عن آخر الأوراق البحثية المقدمة في مجال السياسات المائية في ليبيا والتي قد توضح عُسرة الوصول إلى ماء نظيف في المنطقة.
الباحثة "ملاك التائب", ماجستير في مجال السياسات البيئية طرحت في ورقتها البحثية التي حملت عنوان "السياسة المائية في ليبيا, أزمة إدارة و ليست أزمة ندرة" مشروع "النهر الصناعي العظيم" الذي روج له قبل 2011 كحل نهائي لأزمة المياه الذي يعمل على استخراج و استجلاب المياه الجوفية من الجنوب نحو الشمال عبر أنابيب ضخمة شقت البلاد في الاتجاهات الأربعة. لكن هذا الاستثمار الضخم الذي قدر بـ45 مليار دينار يخفي وراءه فشل واضح في إدارة الثروة المائية و إخفاق أمام احتياجات السكان من الماء الصالح للشراب.
هذا المبلغ كان كافيا لصنع أعجوبة العالم الثامنة "النهر الصناعي العظيم" لكن بنزع هالة الأسطورة عن الواقع, هناك ليبيون يشربون مياه ممزوجة بالبراز و الكثير من الصدأ و بعضا من البكتيريا و الطفيليات.
شارك
Share on facebook
Share on google
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp