ارتفاع الأسعار و قلة بعض المواد الغذائية الأساسية و غيابها في الكثير من الأوقات لم يثني الأسر التونسية عن العادات الاستهلاكية السيئة إذ تهدر سنويا 5% تقريبا من النفقات الموجهة للغذاء
إنّها السّابعة صباحا، نحن نقتفي أثره في زقاق طويل من أزقّة حي الزهور بتونس، كان يسير متقدّما على عربة تقودها عجلتين ينبعث منها أزيز خفيف كلّما جرّها خطوة إلى الأمام، يغطّي رأسه بقبّعة رياضية و يرتدي أسمالا قاتمة تغطّي كلّ جسده وينتعل في قدميه حذاء لا أربطة فيه.
كان يتفحّص القمامة بحركة سريعة مستعينا بقفّازين من البلاستيك. وعلى الرغم من أنّ النعاس كان يغالبه كان يحفظ أماكن صناديق القمامة عن ظهر قلب، لعلّه أثر سبعة سنوات كاملة من مزاولة النّشاط "كبرباش" كما يطلقون عليه في تونس- أي الشّخص الذي يقوم بفرز القمامة.
حدّثنا محمّد الفرشيشي، شابّ أعزب في السّادسة والثلاثين من العمر عن يومه وعن رحلته بين النفايات والمنازل لجمع الخبز، هذا النشاط الذي أصبح اليوم مهنته و التي يجني منها قوت يومه، فبقايا الخبز موجودة على الدوام وبكميّات وفيرة تمكّنه من يوميّة لا تقلّ عن خمسة وعشرين دينارا وفق تعبيره.
يجمع محمّد في اليوم الواحد ما لا يقلّ عن أربعة أكياس من الخبز، ويسع الكيس الواحد أكثر من عشرة كيلوغرامات، فيما يباع الكيلوغرام الواحد حسب محمّد ب 600 مليّم. وهو ما يجعل ثمن الكيس الواحد يناهز الستةّ دنانير.
مبلغ ترك من أجله محدّثنا عمله كنادل مقهى وصنع لنفسه عربة وعلاقات في الأحياء التي يجوبها، انطلاقا من حيّ الزهور وتحديدا في "الميزاناتا"، مرورا بحيّ النجاح، وقد يتّجه أحيانا إلى الملاسين، وأحينا أخرى إلى منطقة السعيديّة، وهي مناطق تابعة لولاية منّوبة.
العائلات في هذه الأحياء يعرفونه ويساعدونه ويفتحون له منازلهم ليجمع بقايا الخبز، التي يمكن أن تصل إلى ستّة أرغفة في البيت الواحد، ما وصفه محمّد بالفساد، ووصف المواطن التونسي بالمبذّر الذي يلقي الطّعام بكميات مهولة في سلة القمامة.
التونسي يلقي بمئات الملايين في القمامة !
رأى محمد كغيره ممن يزاولون مهنة "البرباش" كنزا في الخبز الذي يرميه أهل الأحياء التي يجوبها كل يوم, إذ لم يكن صعبا عليه تأمين نفس الكمية مهما اختلفت الأيام و الفصول, لم يكن ملزما أبدا لتغيير مسار رحلته اليومية ليلتقط رزقه من بقايا الخبز, الأسر نفسها تلقي بنفس الكمية تقريبا و كأنها أضحت ممارسة طبيعية لا ريب فيها ولا احراج.
تلقي الأسر التونسية بما قيمته 100 مليون دينار سنويا من مادة الخبز فقط و أكثر من 500 مليون دينار سنويا من النفقات الموجهة للغذاء وفق السيد لطفي الرياحي مدير المنظمة الوطنية لإرشاد المستهلك.
يتصدر الخبز قائمة المواد المبذرة ب15.7 %, فيما بلغت نسبة إهدار الدقيق لإنتاج الخبز لدى المخابز عام 2017 حوالي 686 ألف طن أي 10.4 % من كميات الدقيق المدعوم
تطول قائمة المواد الغذائية التي تزيد عن حاجة المستهلكين و تجد طريقها نحو القمامة و رغم زخم موروثنا الثقافي بالوصفات و الطرق السهلة لاستغلال الطعام و تخزينه الا أنه يتم اهدار 6.5 % من الخضروات و 4.5 % من الغلال و 2.3 % من مشتقات الحليب التي تكون معظمها مواد تم اعادة تصنيعها و تكريرها لتناسب مختلف الأذواق.
تم استسقاء هذه الإحصائيات من تقرير بحثي أجراه المعهد الوطني للاستهلاك سنة 2016 لدراسة التبذير الغذائي في تونس و هي اخر التقارير التي أجراها المعهد حول هذا الموضوع, و مع ازدياد أعداد مزاولي مهنة "البرباشة" و المشهدية التي يطرحها شكل قمامتنا خلال السنوات الأخيرة نكاد نجزم أن المعطيات تغيرت نحو الأسوء.
ذكر نفس التقرير الذي اعتمد على عينة تتكون من 2004 فرد من مختلف المناطق في تونس أن 70% من العنية يقرون أن مستوى التبذير في المواد الغذائية مرتفع في حين أن 24.2% من نفس العينة كشفوا أنهم يتخلصون من بقايا اغذيتهم في القمامة.
ربما نجد الخسائر المادية الفادحة التي نتكبدها بسبب عادات سيئة التي يمكن تغييرها لو فكرنا للحظات عند عمليات شراء المواد الغذائية الأكثر ازعاجا, خاصة و أن تونس تعيش منذ سنوات أزمة اقتصادية متصاعدة تخلف عجزا في الموازنة كل سنة. لكن و نحن لسنا في معزل عن التغيرات المناخية التي تعيد تشكيل العالم من حولنا, تساهم هذه الممارسات الاستهلاكية غير الحكيمة في تأزيم الوضع البيئي.
فقدان الطعام أما في مرحلة الانتاج و التصنيع أو عند الاستهلاك يمثل هدرا متراكما للمواد الطبيعية من مياه و طاقة و أراض صالحة للزراعة و يد عاملة, و مع ضعف أو فقدان سياسات الدولة لاعادة تدوير و تثمين هذه المواد تطلق عند تحللها انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري و ارتفاع درجات الحرارة.
المواطن التونسي مبذّر رغم ارتفاع الأسعار
ينتمي جزء كبير من العائلات التي يتزود منها محمد من مادة الخبز الى الطبقة المتوسطة ان صح التعبير, هذه الطبقة التي وجدت نفسها منذ سنوات تقترب شيء فشيء لخط الفقر بسبب عجزها في تأمين حاجياتها الغذائية مع ارتفاع الأسعار خاصة في السنة الأخيرة. رافق هذا الارتفاع نضوب عديد المواد الأساسية و شحها.
لم يستطع مسيروا الدولة الحفاظ على الموازنة بين مداخيل هذه الطبقة و سلم ارتفاع المواد الأساسية وخاصة الغذائية وهو ما يدفعنا للتساؤل عن إن كان بإمكاننا الحديث عن حقيقة تماسك الطبقة المتوسطة الشغيلة القادرة على خلق الثروة و دفع عجلة الاقتصاد, تنمية واستهلاك.
وفق المعهد الوطني للإحصاء بلغت نسبة التضخم حتى شهر أوت 2022 نسبة 8.6% حيث ارتفعت نقطتين تقريبا عن السنة الماضية.
ارتفع كذلك مؤشر أسعار الإستهلاك العائلي وفق المعطيات التي وفرها رئيس قسم الأسعار بالمعهد الوطني للإحصاء السيد عبد الجليل التابعي, حيث قفز مؤشر أسعار المواد الغذائية من 6.4 سنة 2019 إلى 11.4 سنة 2022, شهدت بعض المواد الأساسية ارتفاعا بنقطتين على الأقل كذلك, ارتفع مؤشر الخبز و مشتقات الحبوب من 3.7 سنة 2019 الى 5.3 سنة 2022, بالنسبة للحوم من 7.6 سنة 2019 الى 10.6 سنة 2022 أما الأسماك فمن 2.2 سنة 2019 الى 10.0 سنة 2022.
ويعود هذا التضخّم حسب محدّثنا بالأساس إلى الأزمة الرّوسية الأوكرانية والتي خلّفت تضخّما ماليّا خاصّة في قطاع الأغذية والمشروبات وهذه الزيادات سنة 2022 هي الأعلى نسبة منذ السنوات الأربعة الماضية.
ارتفاع الأسعار و قلة بعض المواد الغذائية الأساسية و غيابها في الكثير من الأوقات لم يثني الأسر التونسية عن العادات الاستهلاكية السيئة إذ تهدر سنويا 5% تقريبا من النفقات الموجهة للغذاء.و مع توجه الدولة التونسية لسياسة دعم عدد من المواد الأساسية فإن الثقل يكون أكثر وطأة على الموازنة العامة أكثر من جيب المستهلك الذي يدفع فاتورة هذا الإهدار بصفة غير مباشرة.
نفقات دعم ثقيلة يقابلها التبذير
تزايدت حاجة الأنفاق خلال سنة 2022 بسبب الضغوطات الاقتصادية التي تتعرض لها الدولة منذ سنوات و الركود الذي أصاب حركة التنمية و انتاج الثروة, إذ تذهب أغلب الموازنة للانفاق خاصة و أن تونس تعتمد على الواردات بشكل أساسي لتأمين حاجاتها من المواد الغذائية و الطاقة خاصة و هو ما يتركنا في مواجهة مع تقلبات الأسعار العالمية و أسعار صرف الدينار مقابل اليورو و الدولار الأمريكي.
و بالنسبة للمواد الغذائية فان الاعتمادات المالية المخصصة لدعمها ارتفعت لتتجاوز 3.7 مليار دينار لسنة 2022 مقابل 2.2 مليار دينار تقريبا سنة 2021.
تدعم الدولة مادة الحبوب التي نستورد 80% تقريبا من حاجياتنا منها بأكثر من 3 مليار دينار سنة 2022 مقابل 1.6 مليار دينار سنة 2021, هذا الرقم يقابله اسراف كبير في مادة الخبز الذي حافظ على سعره منذ سنوات ليتم إهدار 900 ألف خبزة يوميا.
لماذا نهدر بهذا القدر؟
ترتبط خسائر المواد الغذائية في الدول منخفضة الدخل بضعف البنية التحتية لحفظ الطعام و معالجته, وغياب المعلومات و البرامج القادرة على توجيه المستهلك عند عمليات الشراء.
لطفي الرياحي مدير المنظمة التونسية لارشاد المستهلك أفاد أن أحد أسباب ظاهرة التبذير هو غياب تصنيف بعض المواد الغذائية التي يقبل عليها المستهلك مثل معلبات الطماطم و غيرها, اذ يقتني منتوجات حديثة الصنع و منتجات قديمة الصنع في الآن ذاته، ومنتوجات بحجم كبير وأخرى بحجم صغير في الآن ذاته أيضا ما يؤدّي إلى تعفّن هذ ه المنتجات قبل استعمالها لأنّه منتوج غير مصنّف من حيث الجودة والحجم ولا يحتوي تاريخ تصنيعه حتى تتبيّن مدى جودته.
و أضاف أن الأسرة التونسية تهدر خبزا قيمته أكثر من 100 مليون دينار سنويّا وحسب مدير المنظّمة يعود هذا بنسبة 40% إلى تدنّى جودة الخبز، فالخبز التونسي اليوم مادّة سريعة التلف لا يمكن استهلاكها بعد 24 ساعة وهذا يعود إلى خلل في صنع هذه المادّة على حدّ تعبيره.
شارك
Share on facebook
Share on google
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp

Graphics
