مريم إبراهيم فتاة ليبية مجهولة الأبوين إختارت الفرار من جحيم الاضطهاد إلى حياةٍ غير معلومة في تونس, بعد معاناتها مع أقارب عائلتها بالتبني لتُلقي بنفسها نحو مصيرِِ مجهول.
''مريم ابراهيم'' .. الوجه الأخر لمفهوم التبني في ليبيا
نشر بتاريخ: 2018/07/24
/
أواخر خريف 2016 كانت نقطة التحول الأكبر في حياة "مريم إبراهيم" (اسم مستعار) و التي كانت تبلغ من العمر حينها 17 ربيعاً, بعد أن قامت بالتخطيط لمثل هذه الخطوة لعدة أشهر غادرت معبر رأس جدير بعد هربها من منزل العائلة التي تمكثُ معها بمنطقة سوق الجمعة في الضاحية الشرقية للعاصمة طرابلس. غادرت إلى تونس هرباً من العذاب الشديد حسب وصفها و الذي لحق بها من تلك العائلة التي تكفلت بتربيتها بعد وفاة أبويها بالتبني. هكذا كانت نقطة التحول في حياة هذه الفتاة لتجد نفسها وحيدة أمام تحدي يفوق طاقتها و إدراكها للحياة في بلدِِ غريبِِ عنها.
بدأت "مريم" حديثها لنا عن حياتها كفتاة مجهولة الأبوين وُلدت في عام 1999 لتجد نفسها داخل دار الأيتام بمنطقة أبوهريدة بمدينة طرابلس, قبل أن يقوم زوجين من منطقة سوق الجمعة بتبنيها عندما كانت تبلغ من العمر شهراً واحداً فقط.
لم أدرك أنني مجهولة الأبوين و أنني لست إبنتهم إلا بعد وفاتهم
هكذا وصفت مريم الفترة التي عاشتها رفقة أبويها بالتبني. فلم تكن تشعر طيلة فترة طفولتها بأنها مختلفة عن باقي أقرانها, ولم تكن تعلم بحقيقة تبنيها من دار الأيتام طيلة المدة التي عاشتها معهم.
فبعد أن قضت طفولتها رفقة أبويها بالتبني سرعان ما بدأ حالها يتبدل بعد وفاة الأم في عام 2011 وتلاها الأب عام 2012. لتجد نفسها وحيدة مجدداً بعد أن قضت ثلاثة عشر عاماً من عمرها رفقتهم.
حيث تم إعلامها من قبل أقارب عائلتها بأنها ليست إبنتهم البيولوجية وإنما هي إبنة دار الأيتام, و ما هي إلا أيام قليلة حتى اجتمعت العائلة (أقارب والديها) من أجل تحديد مصيرها. حينها تم الإتفاق على أن تنتقل للعيش في منزل خالها بالتبني, وذلك لكونه الأقرب لمنزل والديها و عدم وجود إمكانية بأن تعيش بمفردها في منزل والدها الذي تركه لها.
لم تكن تلك العائلة راضية عن انتقالها للعيش معهم, ولكن احساسهم بالمسؤولية الإجتماعية و خوفهم من نظرة بقية الأقارب لهم كان له تأثير كبير في قبولهم لها.
لم يكونوا مرحبين بأن أكون جزء من عائلتهم ولكن خوفهم
من نظرة بقية الأقارب أجبرهم على أن يتقبلوا وجودي بينهم
لم يكن هناك تبني قانوني ولا أي إجراءات تفيد نقل "مريم" إلى عائلتها الجديدة. فقد كانت في عمر صغير حينها فقط ثلاثة عشر عاماً ولم تدرك ماهي الإجراءات التي يجب إتباعها في مثل هذه الحالات. فبحسب السّجلات الموجودة لديها فهي لاتزال مُدرجة ضمن سجلات والديها المتوفين ولم يتم تبنيها بشكل قانوني من قبل العائلة الأخرى, هذا ما تسبب لها في بعض المشاكل لاحقاً خاصة عندما أرادت الحصول على الرقم الوطني أثناء دراستها في الشهادة الثانوية.
سنوات عجاف
قضيت أربعة سنوات معهم كانوا الأسوء في حياتي .. كانو يعاملونني كخادمة لهم
كانت تلك العائلة لا تخفي إستياها من وجود مريم بينهم, فمنذ الأيام الأولى لإنتقالها للعيش معهم كانت تُعامل على أنها خادمة في ذلك المنزل. لتجد نفسها كشخص منبوذ بينهم فلم تشعر يوماً بأنها جزء من العائلة, لم تكن تشاركهم جلساتهم العائلية أو عطلاتهم أو حتى الحديث العائلي الذي كان يجمعهم. كانت تُعامل طيلة تلك السنوات على أنها شخص دخيل فُرض عليهم بحكم الأعراف المجتمعية.
و بعد مرور حوالي سنتين من إنتقالها للعيش معهم قررت و للمرة الأولى عدم السكوت و إخبارهم بأنها لا ترغب في مواصلة العيش معهم. الأمر الذي لم يعيروه أي اهتمام ولم يبالي أحد منهم بما تقول. فما كان لمريم حينها الإ اللجوء إلى مسؤولة الخدمات الإجتماعية في مدرستها الكائنة بمنطقة سوق الجمعة (مدرسة أم المؤمنين) و إخبارها بما تعانيه مع العائلة التي تعيش معها. وبعد إصرارها في العديد من المرات تمكنت في أخر يوم دراسي لها أن تقنع الإخصائية الاجتماعية بمدرستها بإصطحاب موظفة من الشؤون الاجتماعية إلى منزلها من أجل التحقق من وضعها الأسري و إخراجها من تلك العائلة.
كنت أعتقد بأن وزارة الشؤون الاجتماعية سوف تساعدني و لكنهم
زادوا من حدة مشاكلي مع العائلة
تواصل "مريم" سرد تلك الحادثة لتخبرنا بما حدث في ذلك اليوم. عند وصولها إلى المنزل رفقة موظفة الشؤون الاجتماعية كانت تتطلع إلى أن يكون هناك حل مناسب لها يساعدها على الخروج و إيجاد مكان ملائم لها يكفل لها حياة كريمة. ولكن النتيجة لم تكن حسب توقعاتها. حيث تمحور الحديث عن ما سوف يواجه مريم في حال عودتها إلى دار الأيتام وعن كل السلبيات و الممارسات التي يتعرضن لها الفتيات هناك.
و بمجرد مغادرة موظفة الشؤون الاجتماعية للمنزل تعرضت "مريم" للإعتداء الجسدي و اللفظي. فقد إعتبروا إحضارها لشخص غريب للمنزل تصرفاً غير مقبول و إن مثل هذه التصرفات إهانة لهم ولإسم عائلتهم.
أنتِ بنت حرام, أنتِ لقيطة, أنتِ بنت شوارع … إلخ
تقول "مريم" هذه هي الأوصاف التي كُنت أُنعت بها في ذلك اليوم من قبلهم إلى جانب الضرب الُمبرح الذي تعرضت له.
الهروب إلى تونس
بعد إستمرار "مريم" لسنة أخرى على نفس المنوال الذي عاشته طيلة السنوات الثلاث الأخيرة و مع إقترابها من نهاية مشوار دراستها للمرحلة الثانوية, كان كل ما يشغل تفكيرها هو قاعات الدراسة الجامعية وكيف ستتمكن من مواصلة دراستها في ظل تلك الظروف.
الدراسة كانت المتنفس الوحيد لي وسط هذه العائلة
بالرغم من كل المعاناة التي كانت تتعرض لها من سوء في المعاملة أو الإعتداءات اللفظية و الجسدية. دائماً كانت "مريم" تلجأ إلى الدراسة و القراءة فهي تعتبر الكتب عالمها الخاص الذي ينسيها الحياة البائسة التي تعشها داخل ذلك المنزل.
الجامعة مكان مختلط وليس مكان مناسب للفتيات
بهذه العبارة وصفت لنا "مريم" رد العائلة عندما أخبرتهم أنها تريد التسجيل في الجامعة.
و بعد رفضهم أن تكمل دراستها الجامعية و تحديداً في سبتمبر 2016 قررت الهرب من تلك العائلة, لأنها كانت ترى في بقاءها معهم تدميراً للحياة التي تطمح لها مستقبلاً.
تمكنت بخلسة من توفير الأوراق المطلوبة لإستخراج جواز سفر وبمساعدة بعض أصدقاءها الذين لم تعرفهم إلا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. تمكنت في وقت قصير من استخراج جواز سفر وجمع بعض الأموال من أجل السفر.غادرت ليبيا مُتجهة نحو تونس عبر معبر رأس إجدير الحدودي في منتصف أكتوبر 2016. فبعد هروبها من المنزل الذي تعيش به لم يكن لـها مكان أخر تلجأ إليه في ليبيا.
لم أضع مكان محدد لكي أذهب إليه, فقط أردت الخروج من الجحيم الذي عشته في ليبيا
بعد وصولها إلى تونس لم تكن تُدرك ما يجب عليها فعله فقد حاولت مراراً وتكراراً التواصل مع المنظمات الدولية التي تهتم بشؤون حقوق الإنسان في ليبيا و خاصة تلك المنظمات المهتمة بحقوق الأطفال بإعتبارها دون الثامنة عشر عاماً في ذلك الحين.
كانت تأمل أن تجد من يهتم بها ويوفر لها حياة تكفل حقها كـ إنسان ولد وحيداً بدون أبوين, و لكن كل المحاولات لم تكن مجدية فلم تُعر تلك المنظمات أي اهتمام لها ولم يقدموا لها أي مساعدة.
و بعد أشهر قليلة من ذهابها إلى تونس قررت "مريم" مواصلة حياتها و التوغل في المجتمع التونسي والبحث عن فرص عمل تناسبها. وبمساعدة بعض أصدقاءها تمكنت في وقت قصير من العمل في مركزِِ للإتصالات و الذي كان بالنسبة لها مجرد عمل بسيط من أجل توفير احتياجتها الأساسية في تونس كمصاريف السكن و الأكل.
في تونس أعمل من أجل العيش .. لم أتمكن من الحصول على فرصة لمواصلة دراستي و تحقيق حلمي ولكنني لازلت أحاول
و بعد مرور أكثر من عامين على مغادرتها لليبيا لا تزال "مريم" تعيش حياة غير مستقرة في تونس, ورغم كل التحديات المادية فهي تعتبر أن أكبر إنتصار لها هو نيلها لحريتها الشخصية والتي هي مكسب لن تستطيع تحقيقه مع تلك العائلة .
شارك
Share on facebook
Share on google
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp