تصمت لبرھةٌ بینما تداعب بأطراف أصابعھا نھایة وشاحھا، أخیرا أتمكن من ملاحظة أثار جروح عرضیة، محاولات كثیرة على طول الید الیسري لقطع الشرایین.
و ترفع عیناھا وتتأملني بإبتسامة طفولیة وتقول "أثناء تشردي في الشارع تعرفت على شاب تونسي وأحببتھ للغایة كان جداً وسیم وأبیض مثلك. تُشیر إلىّ وفي ملامحھا لمحة حب حزین وتستكمل.
عشت معه إلى حین اخبرني برغبته الزواج مني،حینھا قام بإعادتي إلى بیت أهلي وجاء من أجل أن يطلب يدي للزواج من والدي، لكن حین تأكد من عدم امتلاكي لأي أوراق ثبوتیة ھجرني..!
وتتغیر ملامحھا بسرعة إلى الكراھیة و تقول:
من بعد خروجي من السجن سأعمل على تسجیل نفسي وتأكید ھویتي
مسدس وأعضاء تناسلیة ... وسجن
وتستطرد في قص حكایة دخولھا للسجن بتھمة “التشرد” وتقول: ظللت متنقلة مابین بیت أھلي وعماتي، أھلي یعاملونني بشكل سيء وعنصري دون بقیة إخوتي، أنا الوحیدة بینھم التي لم تتوجھ للمدرسة یوماً. و لا یعطونني أي مبلغ من المال مھما كان ضئیلا، والدتي لا تدرك حتى وجودي. إلى أن قررت الاكتفاء منھم والعودة للشارع، وھربت وظللت أتجول في الشوارع إلى أن عرض على شباب بسیارة عالیة التجول رفقتھم، تبین فیما بعد أنھم ینتمون إلى احدي المیلشیات. حاولوا اغتصابي ولم یفلحوا إلا في تصویري عاریة وطالبوني فیما بعد بالدفع لھم، لا أھتم فأنا لا املك المال في جمیع الأحوال. ضربوني بأخمص المسدس على رقبتي من الخلف، أحدھم حاول حشوّ أخمص مسدسه في أعضائي التناسلیة ولولا خوف زمیلھم من تطور الأمور إلى جریمة قتل لما رأفوا بي، مع انتھائھم من التسلیة.

رموني في الشارع وظللت أتجول ممزقة الملابس إلى ان وجدتني دوریة تابعة "لقوات البركي" في بوسلیم
وھناك ظللت مسجونة أخبرتھم إنني مخطوفة فما كان الرد منھم. أنھم لا یملكون حل لي.
و یعلو ضجیج المولد الكھربائي لیغطي على أصواتنا. معلنا عن بدء ساعات انقطاع الكھرباء الأمر الذي اعتادته العاصمة طرابلس بصمتِِ مریر.
أحلام مسلوبة..!
بصوتِِ مسترخي تشرد عینیھا وتواصل حدیثھا قائلة, احكي لكي قصتي وأنا متماسكة، لكن حین ِأعود لغرفتي في “قسم البلغار” (قسم تتواجد به النساء ذوي السیرة الحسنة في السجن) أبكي كل یوم. صادقت بعض الفتیات بالسجن ھن قریبات من سني معھن اشعر بقلیل من العزاء.
و یزداد قرب الضجة في الممر ویبدو على سعاد القلق، أسالھا عن سبب توترھا فتخبرني أخاف كثیراً من السجانات وخاصة مدیرة السجن. أحترمھا كأنھا والدتي. ھي صارمة و رغم ھذا أھدتني فستان جمیل للغایة، سوف أرتدیه حین خروجي من السجن.
ویتوقف المشھد بیننا فجاءة حینما تدخل علینا إحدى السجانات لتخاطبني بلھجة رجاء قائلة حاولي أن تقدمي لھا حل من خلال نشر قصتھا، إنھا طفلة مسكینة فتحت عینیھا على التشرد، لقد عاشت في سطح العمارة التي أسكنھا.
و لا أملك إلا الرد بابتسامة خجله. تخرج السجانة. ترفع سعاد عینیھا وتنظر إلى نظرة مباشرة وتقول حیاتي تعیسة سأظل ھنا إلى حین موتي.
الخروج من السجن یتطلب توقیع أھلي على استمارة استلامي، وھم تناسوني لا یكفیھم أنھم لم یسجلوني في كتیب العائلة بل أیضا نسوني
و تبادرني بعزم إذا خرجت من ھنا سأنتقل للعیش وحدي والعمل والاستقلال. أرغب الانطلاق في الحیاة خارج لیبیا صرت أكره ھذا البلد، لا أرغب الاستمرار في حیاة الشارع، إذا ما أستمریت على ھذا الحال ساجد نفسي مسجونة مجدداً.
و یسود الصمت بیننا برھةٌ طویلة لیعلن عن موعد انتھاء الحكایة. نترك مكاننا ونتوجھ للخارج تصادفنا قطة على عتبة الباب، تداعبھا سعاد بغنج، و تلحظنا السجانة من بعید لتجئ مسرعة أخدت سعاد إلى تلك الممرات والغرف الباردة القابعة خلف باب حدیدي مغلق بالأتراس.
و بصمت مھیب امضي خارجة من سجن النساء. أفكر في كم عدد الفتیات ألامیات مثل سعاد اللواتي یقبعن خلف القضبان أو یلجأن للشارع.

مؤسسة الاصلاح والتأھیل النساء "الجدیدة" لازالت تستقبل الى یومنا ھذا فتیات قُصّر موقوفات على ذمة قضایا أو أحكام.
و بحسب ما أفاد به الناطق الرسمي بجھاز الشرطة القضائیة العقید (أحمد بو كراع) یقول: أن إصلاحیات الاحداث ھي مؤسسات تتبع مباشرة للتضامن الاجتماعي.
و نتیجة لعدم وجودھا منذا انھیار النظام السابق اصبحت النیابات والمحاكم تحول القُصّر المحكومین والمجوزین الى مؤسسات اصلاح وتأھیل البالغین.
و بھكذا تعلیق یتضح الشرخ الھائل في المنظومة الاداریة بمؤسسات الدولة المنھارة تماما، فمن الظالم جدا خلط القُصّر بالبالغین بمختلف جرائمھم ومخالفاتھم وفتح افاق امام القُصّر للتعلم والانخراط بالبالغین في إطار خاطيء.