"سعاد" أول فتاة ليبية قاصر تسجن في سجن النساء, تعيش بدون أوراق ثبوتية بين حياة التشرد و السجن بسبب إهمال وتجاهل و نكران أهلها لها! في ما یلي رحلة في عالم لم نعتد السماع عنه عن فتاة فتحت عینیھا على التشرد داخل مجتمع قد تُسجن فیه بسبب أو بدون سبب.
رحلة مع سعاد ..(قاصر في سجن النساء)
نشر بتاريخ: 2017/10/30
/
داخل مكتب صغیر سيء التھویة، بجدران مملة اللون، ھنا كل شيء یقترب للرتابة حتى من الأثاث المكتبي، محاطین بالضجر والبرود. ھكذا جلست في انتظار (سعاد) أول سجینة قاصر بسجن "جدیدة" في العاصمة طرابلس.
لم یطل انتظاري حتى بادرتني التحیة صبیة فارعة الطول بإنحناءات جسد امرأة، فقط وحدھا ملامحھا الحنطية الخجولة تدلان على ربیعھا الرابع عشر.
و بلھجة ضجرة تخاطبني ھنا یتركوننا على راحتنا، و لكن في النھایة یظل سجن بقضبان وحرس، حین قبضوا عليّ غیرت اسمي الأول وأضفت لقب جدید، لا أرغب في إضافة المزید من الفضائح لأھلي بسجني، ولعلھا الحسنة الوحیدة لعدم إمتلاكي أي أوراق ثبوتیة. فمن الممكن أن أكون ما أرغب من الأسماء.
عند السؤال عن عمرھا تبادرني بنظرة حائرة وتُجیب.
لا اعلم تاریخ مولدي بالتحدید فقط اعرف إنني من موالید سنة 2002
وتتغیر ملامحھا إلى حزن واشمئزاز ھادئ قائلة: أھلي لا یھتمون بي، وكثیري التّقیید ولا یمنحونني أي شيء مطلقاً، أیضا یفرضون علىّ إرتداء جلباب اسود یخص العجائز، لیس كـجلبابي البناتي ھذا "تشیر بسعادة صبیانیة إلى جلبابھا الأسود الممتزج بأقمشة ملونة". و تسترسل قائلة: حتي أنھم لم یكلفوا أنفسھم تسجیلي في كُتیب العائلة ولا أملك أي أوراق ولا شھادة میلاد، وحین أسال والدي لماذا لا أتوجھ إلى المدرسة كبقیة الأطفال یُخبرني إن علیھ تسجیلي أولاً، والسنوات تمضي دون إجابة حقیقیة. تربیت في منزل عمتي بأسطح احدي عمارات حي الاكواخ بطرابلس.
أخجل من عدم قدرتي على القراءة ولا الكتابة, أكره أھلي للغایة یعلمون إنني سجینة ھنا ولم یكلفوا أنفسھم زیارتي أو السؤال، أیضا عمتي التي ربتني لم تبالي، رموني ولا یعرفون إذا كنت حیة أو میتة
طفلة أمیة تعتاد حیاة الشارع
وتستغرق بأریحیة عبثیة في سرد بدایات تعاستھا, لا أكف عن الھرب من منزل أھلي، بالسنة الماضیة تعرضت للإغتصاب وخسرت عذریتي.
في إحدي المرات تخاصمت مع ابنة عمتي أثناء تجوالنا بالتاكسي وغضبت منھا لدرجة لم أطق فیھ البقاء رفقتھا في السیارة ولذلك أرتجلت من السیارة، ظللت أجوب الشوارع دون مال ولا ھدف إلا الاسترخاء، مع ھبوط الظلام أحدھم عرض على توصیلة بسیارته و قبلت عرضه, و فضول المغامرة البریئة یغلب على ھواجسي. إصطحبني لمنزله و أغتصبني بغرفة ملیئة "بدیكورات الجماجم" و أطلق سراحي فیما بعد.
نسمع ضجیج نسائي في الممر فتقوم بسرعة وخوفٌ من السجانات بتغطیة شعرھا الأسود بالوشاح الملون.
و تسترسل في حدیثھا من ھنا كانت البدایة لكل شي، كنت منھارة وابكي كثیراً وفي أثناء عودتي من عند الشاب الذي اغتصبني، استوقفتني ثلاث فتیات في الشارع حكیت لھن ما حصل معي، عرضن على العیش معھن وانتقلت رفقتھن للحیاة في مدینة العجیلات.
لا أعلم كم عشت معھن, لا أعرف العد ولا أدرك الوقت لكنھا بالتأكید مدة طویلة، كنت أتعاطي المخدرات رفقتھن في كل مرة ارغب في نسیان أھلي
صِرت أعشق التدخین أیضاً، لم أبع جسدي یوماً لكنھن كُن یقنعني بممارسة الجنس مع أحد رفاقھم بینما یقبضن ھن الثمن. إلا إن جاء یوم وتخاصمنا وعدت حینھا إلى طرابلس.
و كشھرزاد بائسة تسترسل في قص حكایتھا بینما أكتفي بمراقبة تغیرات ملامحھا, كنت أتجول نھاراً بنقاب أستر به وجھي بینما أشحذ على الطرقات. في أسوء الأحوال اخرج من الشحاذة بثلاثون دیناراً في الیوم، مبلغ یوفر لي مصروفات الأكل والمشرب، ویمكنني من شراء ملابس داخلیة وبعض الملابس اللائقة. و مع حلول اللیل أسرع للھرب والنوم في بعض الخرائب المھجورة في طریق الشط، وھكذا عشت لمدة لا باس بھا.
بدون ھویة
تصمت لبرھةٌ بینما تداعب بأطراف أصابعھا نھایة وشاحھا، أخیرا أتمكن من ملاحظة أثار جروح عرضیة، محاولات كثیرة على طول الید الیسري لقطع الشرایین.
و ترفع عیناھا وتتأملني بإبتسامة طفولیة وتقول "أثناء تشردي في الشارع تعرفت على شاب تونسي وأحببتھ للغایة كان جداً وسیم وأبیض مثلك. تُشیر إلىّ وفي ملامحھا لمحة حب حزین وتستكمل.
عشت معه إلى حین اخبرني برغبته الزواج مني،حینھا قام بإعادتي إلى بیت أهلي وجاء من أجل أن يطلب يدي للزواج من والدي، لكن حین تأكد من عدم امتلاكي لأي أوراق ثبوتیة ھجرني..!
وتتغیر ملامحھا بسرعة إلى الكراھیة و تقول:
من بعد خروجي من السجن سأعمل على تسجیل نفسي وتأكید ھویتي
مسدس وأعضاء تناسلیة ... وسجن
وتستطرد في قص حكایة دخولھا للسجن بتھمة “التشرد” وتقول: ظللت متنقلة مابین بیت أھلي وعماتي، أھلي یعاملونني بشكل سيء وعنصري دون بقیة إخوتي، أنا الوحیدة بینھم التي لم تتوجھ للمدرسة یوماً. و لا یعطونني أي مبلغ من المال مھما كان ضئیلا، والدتي لا تدرك حتى وجودي. إلى أن قررت الاكتفاء منھم والعودة للشارع، وھربت وظللت أتجول في الشوارع إلى أن عرض على شباب بسیارة عالیة التجول رفقتھم، تبین فیما بعد أنھم ینتمون إلى احدي المیلشیات. حاولوا اغتصابي ولم یفلحوا إلا في تصویري عاریة وطالبوني فیما بعد بالدفع لھم، لا أھتم فأنا لا املك المال في جمیع الأحوال. ضربوني بأخمص المسدس على رقبتي من الخلف، أحدھم حاول حشوّ أخمص مسدسه في أعضائي التناسلیة ولولا خوف زمیلھم من تطور الأمور إلى جریمة قتل لما رأفوا بي، مع انتھائھم من التسلیة.
رموني في الشارع وظللت أتجول ممزقة الملابس إلى ان وجدتني دوریة تابعة "لقوات البركي" في بوسلیم
وھناك ظللت مسجونة أخبرتھم إنني مخطوفة فما كان الرد منھم. أنھم لا یملكون حل لي.
و یعلو ضجیج المولد الكھربائي لیغطي على أصواتنا. معلنا عن بدء ساعات انقطاع الكھرباء الأمر الذي اعتادته العاصمة طرابلس بصمتِِ مریر.
أحلام مسلوبة..!
بصوتِِ مسترخي تشرد عینیھا وتواصل حدیثھا قائلة, احكي لكي قصتي وأنا متماسكة، لكن حین ِأعود لغرفتي في “قسم البلغار” (قسم تتواجد به النساء ذوي السیرة الحسنة في السجن) أبكي كل یوم. صادقت بعض الفتیات بالسجن ھن قریبات من سني معھن اشعر بقلیل من العزاء.
و یزداد قرب الضجة في الممر ویبدو على سعاد القلق، أسالھا عن سبب توترھا فتخبرني أخاف كثیراً من السجانات وخاصة مدیرة السجن. أحترمھا كأنھا والدتي. ھي صارمة و رغم ھذا أھدتني فستان جمیل للغایة، سوف أرتدیه حین خروجي من السجن.
ویتوقف المشھد بیننا فجاءة حینما تدخل علینا إحدى السجانات لتخاطبني بلھجة رجاء قائلة حاولي أن تقدمي لھا حل من خلال نشر قصتھا، إنھا طفلة مسكینة فتحت عینیھا على التشرد، لقد عاشت في سطح العمارة التي أسكنھا.
و لا أملك إلا الرد بابتسامة خجله. تخرج السجانة. ترفع سعاد عینیھا وتنظر إلى نظرة مباشرة وتقول حیاتي تعیسة سأظل ھنا إلى حین موتي.
الخروج من السجن یتطلب توقیع أھلي على استمارة استلامي، وھم تناسوني لا یكفیھم أنھم لم یسجلوني في كتیب العائلة بل أیضا نسوني
و تبادرني بعزم إذا خرجت من ھنا سأنتقل للعیش وحدي والعمل والاستقلال. أرغب الانطلاق في الحیاة خارج لیبیا صرت أكره ھذا البلد، لا أرغب الاستمرار في حیاة الشارع، إذا ما أستمریت على ھذا الحال ساجد نفسي مسجونة مجدداً.
و یسود الصمت بیننا برھةٌ طویلة لیعلن عن موعد انتھاء الحكایة. نترك مكاننا ونتوجھ للخارج تصادفنا قطة على عتبة الباب، تداعبھا سعاد بغنج، و تلحظنا السجانة من بعید لتجئ مسرعة أخدت سعاد إلى تلك الممرات والغرف الباردة القابعة خلف باب حدیدي مغلق بالأتراس.
و بصمت مھیب امضي خارجة من سجن النساء. أفكر في كم عدد الفتیات ألامیات مثل سعاد اللواتي یقبعن خلف القضبان أو یلجأن للشارع.
مؤسسة الاصلاح والتأھیل النساء "الجدیدة" لازالت تستقبل الى یومنا ھذا فتیات قُصّر موقوفات على ذمة قضایا أو أحكام.
و بحسب ما أفاد به الناطق الرسمي بجھاز الشرطة القضائیة العقید (أحمد بو كراع) یقول: أن إصلاحیات الاحداث ھي مؤسسات تتبع مباشرة للتضامن الاجتماعي.
و نتیجة لعدم وجودھا منذا انھیار النظام السابق اصبحت النیابات والمحاكم تحول القُصّر المحكومین والمجوزین الى مؤسسات اصلاح وتأھیل البالغین.
و بھكذا تعلیق یتضح الشرخ الھائل في المنظومة الاداریة بمؤسسات الدولة المنھارة تماما، فمن الظالم جدا خلط القُصّر بالبالغین بمختلف جرائمھم ومخالفاتھم وفتح افاق امام القُصّر للتعلم والانخراط بالبالغین في إطار خاطيء.
شارك
Share on facebook
Share on google
Share on twitter
Share on linkedin
Share on whatsapp

Illustrations
تنوية
سعاد هو اسم مستعار وليس الاسم الحقيقي للفتاة صاحبة القصة. كما حاولنا أخذ صور من داخل السجن و لكن إدارة السجن لم تسمح لنا بالتصوير داخل السجن.
